الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حديث موسى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالوادي المقدس طوى} أي قد جاءك وبلغك حديث موسى. وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.أي إن فرعون كان أقوى من كفار عصرك، ثم أخذناه، وكذلك هؤلاء.وقيل: (هَلْ) بمعنى (ما) أي ما أتاك، ولكن أُخبرت به، فإن فيه عِبرةً لمن يخشَى.وقد مضى من خبر موسى وفرعونَ في غير موضع ما فيه كفاية.وفي (طوى) ثلاث قراءات: قرأ ابن محيصن وابن عامر والكوفيون (طوى) منونا واختاره أبو عبيد لخفة الاسم.الباقون بغير تنوين؛ لأنه معدول مثل عُمر وقُثَم؛ قال الفرّاء: {طوى}: واد بين المدينة ومصر.قال: وهو معدول عن طاوٍ، كما عدل عمر عن عامر.وقرأ الحسن وعِكرمة {طوى} بكسر الطاء، ورُوي عن أبي عمْرو، على معنى المُقَدَّس مرة بعد مرة؛ قاله الزَّجاج؛ وأنشد:أي هو لوم مكرر على.وقيل: ضم الطاء وكسرها لغتان، وقد مضى في (طه) القول فيه.{اذهب إلى فِرْعَوْنَ} أي ناداه ربه، فحذف، لأن النداء قول؛ فكأنه؛ قال له ربه {اذهب إلى فِرْعَوْنَ}.{إِنَّهُ طغى} أي جاوز القدر في العصيان.ورُوي عن الحسن قال: كان فرعون عِلْجا من هَمْدان.وعن مجاهد قال: كان من أهل إِصطَخر.وعن الحسن أيضاً قال: من أهل أَصْبهان، يقال له ذو ظفر، طوله أربعة أشبار.{فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} أي تسلِم فتطهرَ من الذنوب.وروى الضحاك عن ابن عباس قال: هل لك أن تشهد أن لا إله إلا الله.{وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ} أي وأُرشدك إلى طاعة ربك {فتخشى} أي تخافه وتتقيه.وقرأ نافع وابن كثير {تزكى} بتشديد الزاي، على إدغام التاء في الزاي لأن أصلها تتزكى.الباقون: {تزكى} بتخفيف الزاي على معنى طرح التاء.وقال أبو عمرو: {تزكى} بالتشديد تَتَصَدَّق بـ: الصدقة، و{تزكى} يكون زكياً مؤمناً.وإنما دعا فرعون ليكون زكياً مؤمناً.قال: فلهذا اخترنا التخفيف.وقال صخر بن جُوَيْرية: لما بعث الله موسى إلى فرعون قال له: {اذهب إِلى فِرعون} إلى قوله: {وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} ولن يفعل؛ فقال: يا رب، وكيف أذهب إليه وقد علمتَ أنه لا يفعل؟ فأوحى الله إليه أن امض إلى ما أمرتك به، فإن في السماء اثني عشر ألف ملَك يطلبون علم القَدر، فلم يبلغوه وَلا يدركوه.{فَأَرَاهُ الآية الكبرى} أي العلامة العُظْمَى وهي المعجزة.وقيل: العصا.وقيل: اليد البيضاء تَبُرق كالشمس.وروى الضحاك عن ابن عباس: الآية الكبرى قال العصا.الحسن: يده وعصاه.وقيل: فَلْق البحر.وقيل: الآية: إشارة إلى جميع آياته ومعجزاته.{فَكَذَّبَ} أي كذب نبيّ الله موسى {وعصى} أي عصى ربه عز وجل.{ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} أي ولىَّ مدْبراً معرِضاً عن الإيمان {يسعَى} أي يعمل بالفساد في الأرض.وقيل: يعمل في نكاية موسى.وقيل: {أدبر يسعَى} هارباً من الحية.{فَحَشَرَ} أي جمع أصحابه ليمنعوه منها.وقيل: جمع جنوده للقتال والمحاربة، والسَّحَرة للمعارضة.وقيل: حشر الناس للحضور.{فنادى} أي قال لهم بصوت عال {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} أي لا رب لكم فوقي.ويروَي: إن إبليس تصور لفرعون في صورة الإِنس بمصر في الحمام، فأنكره فرعون، فقال له إبليس: ويْحَك! أما تعرفني؟ قال: لا.قال: وكيف وأنت خلقتني؟ ألست القائل أنا ربُّكم الأعلى.ذكره الثعلبيّ في كتاب العرائس.وقال عطاء: كان صنع لهم أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها، فقال أنا رب أصنامكم.وقيل: أراد القادة والسادةَ، هو ربهم، وأولئك هم أرباب السَّفلة.وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ فنادى فحشر؛ لأن النداء يكون قبل الحشر.{فَأَخَذَهُ الله نكال الآخرة والأولى} أي نكال قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] وقوله بعد: {أنا ربكم الأعلى} قاله ابن عباس ومجاهد وعِكرمة.وكان بين الكلمتين أربعون سنة؛ قاله ابن عباس.والمعنى: أمهله في الأولى، ثم أخذه في الآخرة، فعذبه بكلمتيه.وقيل: نكال الأولى: هو أن أغرقه، ونكال الآخرة: العذابُ في الآخرة.وقاله قتادة وغيره.وقال مجاهد: هو عذاب أوّل عمره وآخره.وقيل: الآخرة قوله: {أنا ربكم الأعلى} والأولى تكذيبه لموسى.عن قتادة أيضاً.و{نكال} منصوب على المصدر المؤكَّد في قول الزَّجاج؛ لأن معنى أخذه الله: نكَّل الله به، فأخرج نكال مكانَ مصدر من معناه، لا من لفظه.وقيل: نصب بنزع حرف الصفة، أي فأخذه الله بنكال الآخرة، فلما نزِع الخافض نصب.وقال الفرّاء: أي أخذه الله أخذاً نكالاً، أي للنكال.والنكال: اسم لما جعل نكالاً للغير أي عقوبة له حتى يعتبر به.يقال: نكَّل فلان بفلان: إذا أثخنه عقوبة.والكلمة من الامتناع، ومنه النكولُ عن اليمين، والنِّكْل القيد.وقد مضى في سورة (المزمل) والحمد لله.{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} أي اعتبارا وعظة.{لِّمَن يخشى} أي يخاف الله عزّ وجلّ. اهـ. .قال أبو السعود: وقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حديث موسى}كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لتسلية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من تكذيبِ قومِه بأنَّه يُصيبُهم مثلُ ما أصابَ من كانَ أَقْوى منهُم وأعظمَ. ومَعْنى هلْ أتاكَ: إنِ اعتُبرَ هذا أولَ ما أتاهُ عليه الصلاةُ والسلامُ من حديثه عليه السلام ترغيبٌ له عليه الصلاةُ والسلامُ في استماعِ حديثه كأنَّه قيلَ: هل أتاكَ حديثه أنَا أُخبرَك بهِ وإنِ اعتُبرَ إتيانُه هذا وهُو المتبادرُ من الإيجازِ في الاقتصاصِ حملَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ على أنْ يقرَّ بأمرٍ يعرفُه قبلَ ذلكَ كأنَّه قيلَ: قد أتاكَ حديثه.وقوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس} ظرفٌ للحديث لا للإتيانِ لاختلافِ وَقْتَيهِما {طوى} بضمِّ الطاءِ غيرَ منونٍ وقرئ منوناً وقرئ بالكسرِ منوناً وغيرَ منونٍ فمن نونَّهُ أوَّلهُ بالمكانِ دونَ البقعةِ، وقيلَ: هُو كَثُنَى مصدرٌ لنَادَى أو المقدسِ أيْ ناداهُ ندائينِ أو المقدسِ مرةً بعدَ أُخْرى.{اذهب إلى فِرْعَوْنَ} على إرادةِ القول وقيلَ: هو تفسيرٌ للنداءِ أي ناداهُ إذهبْ وقيلَ: هُو على حذفِ أَنِ المفسرةِ ويدلُّ عليه قراءة عبدِ اللَّهِ {أنِ اذهبْ} لأنَّ في النداءِ مَعْنى القول {إِنَّهُ طغى} تعليلٌ للأمرِ أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ {فَقُلْ} بعدَ ما أتيتَهُ {هَل لَّكَ} رغبةٌ وتوجهٌ {إلى أَن تزكى} بحذفِ إحْدَى التاءينِ من تتزكى أيْ تتطهرُ من دنسِ الكُفرِ والطغيانِ. وقرئ {تزكى} بالتشديدِ {وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ} وأُرشدكَ إلى معرفتِه عزَّ وجلَّ فتعرِفَهُ {فتخشى} إذِ الخشيةُ لا تكونُ إلا بعدَ معرفتِه تعالى، قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} وجَعلُ الخشيةِ غايةً للهدايةِ لأنَّها مِلاكُ الأمرِ، مَنْ خشَى الله تعالى أتَى منْهُ كلَّ خيرٍ، ومَنْ أَمِنَ اجترأَ على كلِّ شرَ. أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بأنْ يخاطبَهُ بالاستفهامِ الذي معناهُ العرضُ ليستدعيَهُ بالتلطفِ في القول ويستنزلَهُ بالمُداراةِ من عُتوِّهِ وهذا ضربُ تفصيلٍ لقوله تعالى: {فَقولاَ لَهُ قولاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} والفاءُ في قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الأية الكبرى} فصيحةٌ تُفصحُ عن جملٍ قد طُويتْ تعويلاً على تفصيلِها في السورِ الأُخرى فإنه عليه الصلاةُ والسلامُ ما أراهُ إيَّاها عقيبَ هذا الأمرِ بل بعدَ مَا جَرى بينَهُ وبينَ الله تعالى ما جَرى من الاستدعاءِ والإجابةِ وغيرِهما من المراجعاتِ وبعد ما جَرَى بينَهُ وبينَ فرعونٍ ما جَرَى من المحاوراتِ إلى أنْ قال: {قال إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ} والإراءةُ إما بمَعْنى التبصيرِ، أو التعريفِ فإن اللعينَ حينَ أبصرَها عرفَها. وادعاءُ سحريتها إنَّما كانَ إراءةً منهُ وإظهاراً للتجلدِ. ونسبتُهَا إليهِ عليه الصلاةُ والسلامُ بالنظرِ إلى الظاهرِ كما أنَّ نسبتَها إلى نونِ العظمةِ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا} بالنظرِ إلى الحقيقةِ والمرادُ بالآية الكُبْرى قلبُ العصَا حيةً وهو قول ابن عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا فإنَّها كانتِ المقدمةَ والأصلَ، والأُخْرَى كالتبعِ لهَا، أو هُمَا جَميعاً، وهو قول مجاهدٍ فإنَّهما كالآيةِ الواحدةِ وقدْ عبرَ عنهُمَا بصيغةِ الجمعِ حيثُ قال: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئايأتى} باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأُمورِ التي كلٌّ منهَا آيةٌ بينةٌ لقومٍ يعقلونَ، كما مَرَّ تفصيلُه في سُورةِ طاه ولا مساغَ لحملها على مجموع معجزاتِه فإن ما عدا هاتين الآيتين من الآيات التسعِ إنما ظهرتْ على يدِه عليه الصلاةُ والسلامُ بعدَ مَا غلبَ السحرةِ على مهلٍ في نحوٍ من عشرينَ سنةً كما مرَّ في سورةِ الأعرافِ ولا ريبَ ف أنَّ هذا مطلعُ القصةِ وأمرُ السحرةِ مترقبٌ بعدُ {فَكَذَّبَ} بمُوسَى عليه السلام وسَمَّى معجزتَهُ سِحْراً {وعصى} الله عزَّ وجلَّ بالتمردِ بعدَ ما علَم صحةَ الأمرِ ووجوبَ الطاعةِ أشدَّ عصيانٍ وأقبحَهُ حيثُ اجترأَ على إنكارِ وجودِ ربِّ العالمينَ رَأْساً وكان اللعينُ وقومُه مأمورينَ بعبادتِه عزَّ وجلَّ وتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ لا بإرسالِ بني إسرائيلَ من الأسرِ والقَسْرِ فقطْ.{ثُمَّ أَدْبَرَ} أي تولَّى عن الطاعةِ أو انصرفَ عنِ المجلسِ {يسعى} أي يجتهدُ في معارضةِ الآيةِ أو أُريدَ ثم أقبلَ أي أنشأَ يسعَى فوضَع موضعَهُ {أدبرَ} تحاشياً عن وصفِه بالإقبالِ وقيلَ: أدبرَ هارباً من الثعبانِ فإنَّه رُويَ أنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لَمَّا ألقَى العَصَا انقلبتْ ثُعباناً أشعرَ فاغراً فاهُ بين لَحْييهِ ثمانونَ ذراعاً وضعَ لحيَهُ الأسفلَ على الأرضِ والأَعلى على سُورِ القصرِ فتوجَّهَ نحوَ فرعونَ فهربَ وأحدثَ وانهزم الناسُ مزدحمينَ فماتَ منهُم خمسةٌ وعشرونَ ألفاً من قومِه وقيلَ: إنها حينَ انقلبتْ حيةً ارتفعتْ في السماءِ قدرَ ميلٍ ثمَّ انحطتْ مقبلةً نحوَ فرعونٍ وجعلتْ تقول: يا مُوسَى مُرنِي بما شئتَ ويقول فرعونُ: أنشدكَ بالذي أرسلكَ إلا أخذتَهُ فأخذَهُ فعادَ عصا ويأباهُ أنَّ ذلكَ كانَ قبلَ الإصرار على التكذيبِ والعصيانِ والتصدِّي للمعارضة كما يعربُ عنه قوله تعالى: {فَحَشَرَ} أي فجمعَ السحرةَ لقوله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ في المدائن حاشرين} وقوله تعالى: {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي ما يُكادُ به من السحرة وآلاتِهم وقيلَ: جنودُه ويجوزُ أنْ يرادَ جميعُ الناسِ {فنادى} في المجمع بنفسه أو بواسطة المُنادِي {فَقال أنا رَبُّكُمُ الأعلى} قيلَ: قامَ فيهم خطيباً فقال تلكَ العظيمةَ.{فَأَخَذَهُ الله نكال الأخرة والأولى} النكال بمَعْنى التنكيلِ كالسلامِ بمعنى التسليمِ وهو التعذيبُ الذي ينكلُ منْ رآهُ أو سمعَهُ ويمنعُه من تعاطِي ما يُفضِي إليهِ ومحلُّهُ النصب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ كوعدَ الله وصبغةَ الله كأنَّه قيلَ: نكَّلَ الله به نكال الآخرةِ والأُولى وهو الإحراقُ في الآخرة والإغراقُ في الدُّنيا وقيلَ: مصدرٌ لأخذَ أي أخذَهُ الله أخذَ نكال الآخرةِ الخ، وقيلَ: مفعولٌ له أي أخذَهُ لأجل نكال الخ، وقيلَ: نصب على نزع الخافضِ أي أخذَهُ بنكال الآخرةِ والأُولى وإضافتُه إلى الدارين باعتبار وقوعِ نفسِ الأخذِ فيهمَا لا باعتبارِ أنَّ ما فيهِ من مَعْنى المنعِ يكونُ فيهمَا فإن ذلكَ لا يتصورُ في الآخرةِ بل في الدُّنيا فإن العقوبةَ الأخرويةَ تنكلُ من سمعَها وتمنعُه من تعاطِي ما يُؤدي إليها لا محالةَ وقيلَ: المرادُ بالآخرةِ والأُولى قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} قيل: كان بينَ الكلمتينِ أربعونَ سنةً فالإضافةُ إضافةُ المسبِّبِ إلى السببِ.{إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيمَا ذُكِرَ من قصة فرعونَ وما فَعَل وما فُعلِ به {لَعِبْرَةً} عظيمةً {لّمَن يخشى} أي لمَنْ مِنْ شأنِه أنْ يخشَى وهو مَنْ مِنْ شأنِه المعرفةُ. اهـ..قال الألوسي: {هَلُ أَتَاكَ حديث موسى}كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم ومعنى هل أتاك أن اعتبر أن هذا أول ما أتاه عليه الصلاة والسلام من حديثه عليه السلام ترغيب له صلى الله عليه وسلم في استماع حديثه كأنه قيل هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص أليس قد أتاك حديثه وليس هل بمعنى قد على شيء من الوجهين وقوله تعالى: {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوى (16)}ظرف للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتيهما وجوز كونه مفعول اذكر مقدراً وتقدم الكلام في الواد المقدس واختلاف القراء في {طوى}.{اذهب إلى فِرْعَوْنَ} على إرادة القول والتقدير وقال له أو قائلاً له اذهب إلخ وقيل هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل هو على حذف أن المفسرة يدل عليه قراءة عبد الله {أنِ اذهبْ} لأن في النداء معنى القول وجوز أن يكون بتقدير أن المصدرية قبلها حرف جر {إِنَّهُ طغى} تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به.{فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تزكى (18)}{فَقُلْ} بعد ما أتيته {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى} أي هل لك ميل إلى أن تتزكى فلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف وإلى أن {تزكى} متعلق بذلك المبتدأ المحذوف ونحوه قول الشاعر:قد يقال هل لك في كذا فيؤتى بفي ويقدر المبتدأ رغبة ونحوه مما يتعدى بها ومنهم من قدره هنا رغبة لأنها تعدى بها أيضاً وقال أبو البقاء لما كان المعنى أدعوك جيء بإلى ولعله جعل الظرف متعلقاً بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه و{تزكى} بحذف إحدى التاءين أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرأ الحرميان وأبو عمرو بخلاف {تزكى} بتشديد الزاي وأصله كما أشرنا إليه تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي.{وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ} أي ارشدك إلى معرفته عز وجل فتعرفه {فتخشى} إذا الخشية لا تكون إلا بعد معرفته قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر من خشيء الله تعالى أتى منه كل خير ومن أمن اجترأ على كل شر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة «من خاف ادلج ومن ادلج بلغ المنزل» وفي الاستفهام ما لا يخفى من التلطف في الدعوة والاستنزال عن العتو وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى: {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 24] وتقديم التزكية على الهداية لأنها تخلية والفاء في قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)}فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلاً على تفصيلها في موضع آخر كأنه قيل فهذب وكان كيت وكيت فأراه واقتصر الزمخشري في الحواشي على تقدير جملة فقال إن هذا معطوف على محذوف والتقدير فذهب فأراه لأن قوله تعالى: {اذهب} يدل عليه فهو على نحو {اضرب بعصاك الحجر فانبجست} [الأعراف: 160] والآراء إما بمعنى التبصير أو بمعنى التعريف فإن اللعين حين أبصرها عرفها وادعاء سحريتها إنما كان إظهاراً للتجلد ونسبتها إليه عليه الصلاة والسلام بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى: {ولقد أريناه آياتنا} [طه: 56] بالنظر إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى على ما روي عن ابن عباس قلب العصا حية فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها وعلى ما روي عن مجاهد ذلك واليد البيضاء فإنهما باعتبار الدلالة كالآية الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى: {اذهب أنت وأخوك بآياتي} [طه: 24] باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وجوز أن يراد بها مجموع معجزاته عليه السلام والوحدة باعتبار ما ذكر والفاء لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل عليهم السلام أو هو للزيادة المطلقة ولا يخفى بعده ويزيده بعداً ترتيب حشر السحرة بعد فإنه لم يكن إلا على إراءة تينك الآيتين وإدباره عن العمل بمقتضاهما وأما ما عداهما من التسع فإنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة وزعم غلاة الشيعة أن الآية الكبرى على كرم الله تعالى وجهه أراه إياه متطورة روحه الكريمة بأعظم طور وهو هذيان وراء طور العقل وطور النقل.{فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)}{وعصى} الله تعالى بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز وجل وترك العظمة التي يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط وفي جعل متعلق التكذيب موسى عليه السلام ومتعلق العصيان الله عز وجل ما ليس في جعلهما موسى كما قيل فكذب موسى وعصاه من الذم كما لا يخفى.{ثُمَّ أَدْبَرَ} تولى عن الطاعة {يسعى} أي ساعياً مجتهداً في إبطال أمره عليه السلام ومعارضة الآية وثم لأن إبطال ذلك وقيل أدبر يسعى هارباً من الثعبان فإنه روى أنه لما ألقى العصا انقلبت ثعباناً أشعر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون زراعاً فوضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فهرب فرعون وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه وفي بعض الآثار أنها انقلبت حية وارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصى وأنت تعلم أن هذا إن كان بعد حشر السحرة للمعارضة كما هو المشهور فلا تظهر صحة إرادته هاهنا إذا أريد بالحشر بعد حشرهم وإن كان بعد التكذيب والعصيان وقبل الحشر فلا يظهر تراخيه عن الأولين نعم قيل أن ثم عليه للدلالة على استبعاد ادباره مرعوباً مسرعاً مع زعمه الإلهية وقيل أريد بقوله سبحانه: {ثُمَّ أَدْبَرَ} ثم أقبل من قولهم أقبل يفعل أي أنشأ لكن جعل الإدبار موضع الإقبال تمليحاً وتنبيهاً على أنه كان عليه دماراً وإدباراً.{فَحَشَرَ} أي فجمع السحرة لقوله تعالى: {فأرسل فرعون في المدائن حاشرين} وقوله سبحانه: {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى} [طه: 60] أي بما يكاد به من السحرة وآلاتهم وقيل جمع جنوده وجوز أن يراد جمع أهل مملكته {فنادى} في المجمع نفسه أو بواسطة المنادي وأيد الأول بقوله تعالى: {فَقال أنا رَبُّكُمُ الأعلى} وعلى الثاني فيه تقدير أي فقال يقول فرعون أنا ربكم إلخ مع ما في الثاني من التجوز وفي بعض الآثار أنه قام فيهم خطيباً فقال تلك العظيمة وأراد اللعين تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم.{فَأَخَذَهُ الله نكال الآخرة والأولى} النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي ما يفضي إليه وهو نصب على أنه مصدر مؤكد ك {وعد الله} [النساء: 122] و{صبغة الله} [البقرة: 138] كأنه قيل نكل الله تعالى به نكال الآخرة والأولى وهو الإحراق في الآخرة والإغراق والإذلال في الدنيا وجوز أن يكون نصباً على أنه مفعول مطلق لأخذ أي أخذه الله تعالى أخذ نكال الآخرة إلخ وأن يكون مفعولاً له أي أخذه لأجل نكال إلخ وأن يكون نصباً بنزع الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها فيها وأن يكون في تأويل المشتق حالاً وإضافته على معنى في أي منكلاً لمن رآه أو سمع به في الآخرة والأولى وجوز أن تكون الإضافة عليه لامية وحمل {الآخرة والأولى} على الدارين هو الظاهر وروي عن الحسن وابن زيد وغيرهما وعن ابن عباس وعكرمة والضحاك والشعبي أن الآخرة قولته: {أنا ربكم الأعلى} والأولى قولته {ما علمت لكم من إله غيري} وقيل بالعكس فهما كلمتان وكان بينهما على ما قالوا أربعون سنة وقال أبو رزين الأولى حالة كفره وعصيانه والآخرة قولته {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] وعن مجاهد أنهما عبارتان عن أول معاصيه وآخرها أي نكل بالجميع والإضافة على جميع ذلك من إضافة المسبب إلى السبب ومآل من يقول بقبول إيمان فرعون إلى هذه الأقوال وجعل ذلك النكال الإغراق في الدنيا وقد قدمنا الكلام في هذا المقام.{إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به {لَعِبْرَةً} عظيمة {لّمَن يخشى} أي لمن شأنه أن يخشى وهو من شأنه المعرفة وهذا إما لأن من كان في خشية لا يحتاج للاعتبار أو ليشمل من يخشى بالفعل وم كان من شأنه ذلك على ما قيل. اهـ.
|